الحرب في أفغانستان
شرعت بعض الدول الكبرى التي تمتلك أسلحة ذات تقنية متقدمة في تغيير مذاهبها العسكرية الدفاعية، فقد سعت دول حلف الناتو وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حربها في كوسوفو عام 1999م ضد صربيا إلى ترسيخ مذهب عسكري مفاده أن القوة الجوية كفيلة بكسب الحرب دون مساعدة تذكر من القوات البرية، وأن ذلك هو المذهب العسكري الملائم لحرب المستقبل، وهكذا يتسنى تقليص حجم الجيوش الكبيرة التي تكلِّف أموالاً طائلة وتفتقر إلى سرعة الحركة عندما يقتضي الأمر نشرها في أماكن بعيدة، ومن شأن ذلك أن يجعل الحرب شبيهة بألعاب الكمبيوتر وخالية من الخسائر البشرية التي كانت سمة ملازمة لأشكال الحرب التقليدية.
ولكن القوة الجوية في حملة كوسوفو عام 1999م لم ترقَ إلى المستوى المطلوب، حيث تحصّن الصرب في متاريس تحت الأرض إلى أن اضطرت قوات الحلف بعد أن أدركت أنها لا تحرز تقدماً إلى الاختيار بين التوقّف عن القصف الذي استنفد كميات كبيرة من الصواريخ والقنابل، دون أن تخور عزيمة العدو، والدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار أو زجِّ القوات البرية في أتون المعركة وشن حرب عسكرية تقليدية واسعة النطاق للتغلُّب على العدو. ورغم أن الخسائر كانت قليلة في صفوف المهاجمين وهو أمر نادر الحدوث في التاريخ العسكري فقد كان من أبرز الدروس المستفادة من حرب كوسوفو أن القوة الجوية ليست كافية لكسب حرب بمفردها، حتى ضد بلد صغير لديه من العزيمة والإصرار ما يمكِّنه من الصمود في وجهها، وهو درس كان بوسع مخططي حلف الناتو استيعابه من عِبَر التاريخ العسكري، ولكن القيادة العسكرية الأمريكية التي كانت غارقة في أسلحتها الحديثة لم تكن لتستسيغ مثل ذلك الدرس.
صواريخ كروز بعيد المدى
لقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً صواريخ كروز بعيدة المدى في أعمال تأديبية ضد دول صغيرة أقل منها تسليحاً، وليست لها المقدرة على الرد بالمثل، حيث أطلقت هذه الصواريخ على أهداف في عمق تلك الدول دون أن تتكبّد خسائر. حدثت الواقعة الأولى في سبتمبر 1996م عندما أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية صواريخ كروز ضد القوات العراقية التي كانت تعمل على قمع العصيان الكردي.
أما الهجوم الثاني فقد أعقب تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزايا) في وقت متزامن تقريباً يوم 7 أغسطس 1998م والذي أودى بحياة 264 شخصاً وإصابة آخرين فيهم مواطنون أمريكيون بجراح؛ وكانت مسؤولية ذلك التفجير قد ألقيت على منظمة إرهابية يعتقد أن عقلها المدبر يدير عملياته من أفغانستان. وعندما رفضت حكومة طالبان طلباً تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية لإبعاده عن أراضيها أطلقت هذه الأخيرة 75 صاروخ توماهوك في يوم 20 أغسطس من ست سفن بحرية وغواصة على أهداف في أفغانستان وعلى مصنع أدوية بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم، مما أوقع العديد من الإصابات بينهم نساء وأطفال ونظراً لضعف هاتين الدولتين من الناحية العسكرية لم تتمكنا من القيام برد فعل عسكري على ذلك العدوان السافر.
وسوف تتحدد السياسة الدفاعية الأمريكية وفق توجهات الحكومة الجديدة التي يعتقد أنها سوف تستمر على هذا النهج القائم على إطلاق صواريخ كروز على الخصوم الذين لا يذعنون لسياستها، شريطة ألاّ يكون أولئك الخصوم أو حلفاؤهم قادرين على الرد بالمثل. ومن شأن ذلك أن يحرِّض على الإرهاب العالمي كشكل من أشكال الحرب السرية، وبالتالي تصبح الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها قوة دولية عظمى معرضة لأعمال إرهابية كما ظهر ذلك بجلاء في الهجوم على المدمِّرة الأمريكية (يو أس أس كول) في ميناء عدن في شهر أكتوبر 2000م والذي قتل فيه 17 بحاراً أمريكياً وألحق أضراراً بالغة بالسفينة.
صواريخ كروز الروسية
تراود روسيا فكرة إطلاق صواريخ كروز وكأن قوة دولية واحدة غير كافية لامتلاك تلك المقدرة وهي تنظر شذراً لأفغانستان التي أبدت تعاطفاً مع المقاتلين الشيشانيين الذين تخوض معهم حرباً، ولسان حال الرئيس الروسي بوتين يقول: إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على أن تمطر وابلاً من صواريخ كروز على الدول الصغيرة التي لا تدور في فلكها دون أن تتعرّض لمواجهة عسكرية أو شجب صريح من المجتمع الدولي، فلماذا لا تحذو روسيا حذوها في أفغانستان المجاورة أو الدول المسلمة المحيطة بها من الشرق والجنوب ويؤوي بعضها مجموعات مسلحة معارضة لروسيا؟ مع العلم بأن الرئيس الروسي بوتين قد صرَّح في أكثر من مناسبة بأن التهديد الرئيسي لروسيا يتمثَّل في الجماعات الإسلامية المسلحة، وقد يتسبب هذ الوضع في أن تطلق كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية صواريخ كروز على أهداف في أفغانستان وهي البلد الذي يفتقر إلى حلفاء يهبون لنجدته.
لقد أثار اعتراف حكومة طالبان بالمقاتلين الشيشانيين حفيظة روسيا، التي اتهمتها بإرسال مساعدات عسكرية ومتطوعين للقتال في الشيشان، وهددت باتخاذ إجراءات عسكرية ما لم تكف أفغانستان عن ذلك، الأمر الذي فسَّره كثير من المراقبين على أنه يعني استخدام صواريخ كروز (التي تمتلك روسيا أعداداً كبيرة منها) وبخاصة أن قواتها المسلحة حسب أدائها في حربي الشيشان الأخيرتين ليست في وضع يؤهلها لشنِّ عملية تقليدية كبيرة للإطاحة بحكومة طالبان.
ويتمركز حالياً ما يزيد على 25000 جندي روسي على الحدود الروسية الأفغانية التي يبلغ طولها 1300 ميل بالتنسيق مع حكومتي تركمنستان وتاجاكستان اللتين أغلقتا حدودهما على مدى بضعة شهور؛ ورغم أن حكومة طالبان سارعت بنفي تلك المزاعم قائلة إن مساعداتها للشيشان تدخل في إطار المساعدات الإنسانية فحسب، ولكن من المرجح أن تكون قد أرسلت بالفعل أسلحة ومعدات عسكرية ومتطوعين ممن تلقوا تدريبات في معسكرات داخل أفغانستان؛ وتخشى حكومة طالبان أن تطلق روسيا عليها صواريخ كروز أو تقدم مساعدات عسكرية لمعارضيها.