تخرج الفكرة من دماغ رجل واحد ليبشر بها فيجمع حوله عددًا من الأنصار. ونقل هذه الفكرة إلى الأنصار مباشرة هو الطريقة المثلى، ولكن هذا النقل سيصبح متعذرًا بعد ازدياد عدد هؤلاء الأنصار فيتطلب عندئذ الاستعانة بالوسطاء. هذا الشر الذي لا بد منه، وهذا ما يفرض التنظيم على أساس إنشاء شعب وخلايا محلية. بيد أنه لا يجوز التسرع في إنشاء هذه الخلايا قبل أن تترسخ سلطة مؤسس الحركة في المركز الرئيسي لحركته. فمثلاً سحر مكة وروما يعطي الإسلام والكاثوليك قوة منشأها الوحدة الداخلية وخضوع المؤمنين والأنصار للرجل الذي هو رمز لهذه الوحدة. ومن هنا وجب علينا إحاطة المكان الذي انطلقت منه الفكرة، بهالة من القدسية تجعله محجة للأنصار ورمزًا لوحدتهم.
يتضح مما أسلفنا أن الأسس التي يجب أن تقوم عليها حركتنا داخليًا هي الآتية:
1- حصر النشاط في مدينة واحدة هي ميونخ. حيث بها مجموعة كبيرة من الأنصار المتحمسين، ويصار إلى تأسيس مدرسة لتعليم رسل الحركة. وفي نفس الوقت يحاول الحزب فرض وجوده ومحو الوهم العالق في الأذهان باستحالة قيام حركة جديدة تقوى على التصدي في وجه الماركسية والتغلب عليها.
2- لا يصار إلى إنشاء خلايا محلية ما لم تتثبت سلطة المركز في ميونخ.
3- لا يصار إلى إنشاء فروع إقليليمة ما لم تتوفر الاثباتات الكافية على ولاء الأنصار للمركز الرئيسي وتقيدهم بتعلماته. علمًا أن إنشاء مراكز إقليمية يتوقف على عدد كافٍ من الأفراد الذين يعتمد عليهم بإدارة المراكز. ويمكن للحزب أن يجتذب أفرادًا أذكياء فينشئهم تنشئة قوية تؤهلهم للقيادة، إذا توفر لديه المال الكافي. وهذا ممكن بدفع رواتب الموظفين من صندوقه الخاص. أما إذا لم تسمح له ماليته باستخدام رؤساء موظفين، فإنه يعهد بإدارة الفروع إلى رجال لا يبخلون على الحزب بالجهد والوقت والمال.
وقبل إنشاء الفرع يجب تعيين رئيسه، فإذا تعذر ذلك يترك الفرع دون رئيس أو تترك المنطقة دون فرع، لأن الرئيس الفاشل كالقائد الأحمق الذي لا يحسن وضع وتنفيذ الخطط.
إن نجاح حركة سياسية لا يعتمد على تعصب الأنصار واعتبار حركتهم أنبل الحركات وأسماها. ومن يعتقد أن اندماج حركتين متماثلتين يضاعف من قوة الحركة فهو مخطيء. لأن هذا يزيد في النمو الخارجي، مع أن هذا الاندماج يلقي بذور ضعف داخلي تظهر أعراضه بسرعة. ذلك أنه مهما كان التشابه قريبًا فالشبه التام بينهما يبقى مستحيلاً. والطبيعة نفسها لا تسمح بالتزاوج بين جهازين مختلفين، فتعمد إلى استفزازهما إلى القتال ليبقى الأنسب والأقوى.
فالتاريخ يعلمنا أن قوة الأحزاب تقوم على التعصب ضد كل ما هو خارج عنها، وأن أنصار الحزب حين يقتنعوا بصحة فكرتهم يتجندوا للدفاع عنها ولمنازلة خصومهم موقنين أن النصر حليفهم. ولا يزيدهم الاضطهاد إلا شدة وعزيمة. فالمسيحية لم تنتشر وتشتد بالتسويات بين تعاليمها وتعاليم بقية الديانات بل شقت طريقها بفضل تعصبها لرسالتها ودفاعها عنها دفاعًا مستميتًا.
ينبغي لحركتنا أن تعلم وتفهم الشعب الألماني أن اليهودي إذ يقول الحقيقة إنما يحاول تغطية خدعة كبرى، وأن كل افتراء يصدر عن اليهود هو كالشهادة بحسن السلوك. وكل ألمان يهاجمه اليهود هو واحد منا، وكل ألماني يبغضه اليهود هو أفضل أصدقائنا.يجب على حركتنا أن تفهم أنصارها أن من يقرأ جريدة صباحية يهودية ولا يجد فيها حملة من الافتراء عليه. فمعني ذلك أنه أضاع نهاره السابق سدى، فلو أمضى نهاره السابق في مكافحة نشاط اليهود لوجد في صباح اليوم التالي حملة الإفتراء والتجريح في صحف الصباح.
حين يدرك أنصارنا هذا كله تصبح حركتنا قوية لا يمكن أن تُغلب.لم يكترث الجمهور لعملنا الحكلب، وكان معذورًا إذ كان عددنا في البداية سبعة رجال لا حول لهم يهدفون إلى تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب الكبيرة.
فكنا نجلس في اجتماعاتنا نحن السبعة حول طاولة عارية إلا من أقلامنا وأوراقنا، لنتناقش بضع ساعات في أمور تافهة كتنظيم دعوة أو اعداد بيان. وغني عن القول أن ميونخ كانت في شاغل عن الانتباه لأمر سبعة رجالة يعقدون اجتماعًا. وقد ظل هذا دأبنا إلى أن قررنا توسيع نطاق حركتنا بدعوة الناس لحضور اجتماعاتنا، فنظمنا اجتماعات دورية مرة أو مرتين في الشهر، وتولينا كتابة أوراق الدعوة وتوزيعها بأنفسنا. وحدث أن قمت بنفسي بتوزيع ثمانين بطاقة دعوة على أشخاص طالما امتدحوا حركتنا وكذلك فعل رفاقي فبلغ مجموع ما قمنا بتوزيعه حوالي خمسمائة وعشرين بطاقة ولكن النتيجة كانت مخيبة لآمالنا بشكل كبير، ففي الموعد المعين لم يكن في قاعة الاجتماع سوى الأعضاء السبعة.
بعد هذا الحادث طبعنا أوراق الدعوة على الآلة الناسخة، فضمنا نجاح الاجتماع الثاني فحضره حوالي الثلاثة عشر مواطنًا، وتدريجيًا ازداد الرقم، إلى أن وضعنا إعلانًا في إحدى الصحف المستقلة عن اجتماعنا السادس، وكانت النتيجة مشجعة إذ استأجرنا قاعة في "هوفبروس كيلر" تتسع لمئة وثلاثين شخصًا، وفي الوقت المحدد حضر الاجتماع حوالي المئة وأحد عشر شخصًا.
وقع الاختيار علي لأخطب في الجمهور، وكانت هذه أول مرة أخطب فيها فعارضني معارضة شديدة رئيس الحزب "الهر هارير" الذي كان يظن أني أصلح لكل شيء ما عدا الخطابة ولكن كان "هارير" مخطئًا، فقد اكتشف الجمهور أنني خطيبًا من الطراز الأول، وقد قوطع خطابي بالتصفيق الحاد عدة مرات. وعندما دعي المستمعون للتبرع لصندوق الحركة بلغت حماستهم حدها الأقصى فأقاموا على التبرع ودخل على الصندوق حوالي ثلاثمائة مارك، مما أتاح لنا طبع نشراتنا وتعاليمنا وأوراق الدعوة.
لم يقتصر نجاح الاجتماع على هذه الناحية، فقد كان من جملة الحاضرين بعض الذين حاربت معهم في الجبهة، فمضوا إلى رفاقهم ورفاقي يصفون انطباعاتهم عن الاستماع ويشرحوا لهم مباديء حركتنا وأهدافها، واستطاعوا استدراج الكثيرين لحضور الاجتماعات المقبلة، ولكنهم ما لبثوا أن انخرطوا في الحزب الجديد. وكانوا شبانًا شجعانًا تشبعوا بروح النظام وأخذوا من الخدمة العسكرية شعارًا ممتازًا أن لا مستحيل في الحياة.
وما هي إلا أسابيع معدودة حتى بدأ الحزب يعطي نتائجه الطيبة. كان أول رئيس للحزب الهر هارير، صحفيًا لامعاً مثقفًا. ولكنه كان يجهل مخاطبة الجمهور وإثارة حماسته. وكذلك الهر دركسلر رئيس فرع ميونخ الذي لم يكن هو الآخر ذا موهبة خطابية. وقد لاحظت عليه الضعف والتردد، وقد علمت أنه لم يدخل الجندية قط، فاتضح لي سبب افتقاره إلى معالم الرجولة الحقة، فهو لم يدخل المدرسة الوحيدة التي تنشيء رجالاً يثقون بأنفسهم ثقة لا حد لها.
كان هارير ودركسلر ضعيفي الثقة بأنفسهم وبحركتنا الجديدة. خاصة بما يتعلق بقوة الحركة على سحق كل من يقف في طريق نموها وانتشارها. إن هذه المهمة لجديرة برجال صهرتهم الجندية وحولتهم إلى رجال أصلب وأقوى. وأنا كنت جنديًا قد نسيت في الجبهة شيئًا اسمه "خطر" أو "مستحيل" لأن حركتنا كانت عبارة عن مجازفة خطرة،
فقد كان الماركسيون أسياد الموقف يهاجمون كل من يعقد اجتماعات شبيهة باجتماعاتهم، فيعتدون على الحاضرين ويزعموا أن المجتمعين قد تحرشوا بهم واستفزوهم. فقد كانوا يكافحون كل اجتماع يجتذب الجمهور، وكان هذا موقفهم تجاه حزبنا الفتي، الذي بدا اجتماعاته بدعوة العمال والمستخدمين. وعندما أطلقنا على حركتنا اسم "حزب العمال الألماني" بدأ الماركسيون بمهاجمتنا كما بدأ على أنصارنا أنهم خائفون ويفضلون التهرب من الاصطدام مع الحمر خوفًا من الهزيمة، وكنت أنا أعارض هذا التخاذل وأطلب منهم قبول التحدي والعمل على استفزاز خصومنا ومحاربتهم بسلاحه، فسلاح الإرهاب لا يحارب إلا بالإرهاب.
وأخيرًا فازت نظريتي فعقدنا الجمعية العمومية الأولى بعد أن تهيأنا لمواجهة كل الاحتمالات وكان النجاح حليفنا، فعقدنا عدة اجتماعات متتالية. وقد تكلمت في أحد الاجتماعات لمدة ساعة كاملة بحضور حشد كبير من المستمعين. وقد حاولت بعض العناصر التشويش وإشاعة الفوضى إلا أن رفاقنا تصدوا لهم وأوسعوهم ضربًا وطردوهم من قاعة الاجتماع.
وتوالت اجتماعاتنا وازدادت استعداداتنا لصد الاعتداءات بنفس العنف الذي يستعمله الماركسيين، وكان إيماننا قويًا وتعصبنا للفكرة التي بدأت تفتح طريقها قادرًا على نقل الجبال من أماكنها.
انصرفنا بعد ذلك إلى وضع النظام الداخلي للحزب وقد حدثت بعض المناقشات حول القضايا الشكلية كتسمية الحزب مثلاً. بينما انصرفت خلال هذا التنظيم إلى مقامة فكرة قبول بعض الأعضاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم "الألمان الشعبيين". فهؤلاء طبقة من المواطنين لا يعادل عملها الايجابي الصفر، ويتجاوز ادعاؤها الفارغ كل حد. وقد أوضحت لرفاقي أن حركتنا الفتية لن تكسب شيئًا من انضمام رجال مقدرتهم الوحيدة في أنهم أمضوا ثلاثين أو أربعين سنة في خدمة فكرة من الأفكار. إذ أن رجلاً أمضى أربعين عامًا في خدمة ما يعتبره فكرة دون أن يؤمن لها النجاح المطلوب، أو على الأقل دون أن يحول دون انتصار خصومها، هذا الرجل لن يُرجى منه أي خير لحركتنا الناشئة. والأمر من ذلك أن هؤلاء "المناضلين" العريقين يرفضون الانضمام كأعضاء عاديين، بل يطلبون مراكز عالية تتناسب و"جهادهم" الطويل.
وأوضحت لزملائي أيضًا أن هذا النوع من السياسيين الخائبين لا يريدون من انضمامهم إلى حركتنا خدمة هذه الحركة، بل يريدون تنفيذ نظريتهم الخاصة بواسطتنا. ولإن يكن بعضهم يتصرف عن جهل مطبق إلا أن بعضهم الآخر يتصرف بناءً على خطة مرسومة ولهدف معين. ومن بين هذا البعض نجد فئة تريد محاربة اليهود على الصعيد الديني بينما تدعي أن الحركات الاصلاحية في البلاد يجب أن تقوم على أساس عنصري محض.
لذلك قررت إبعاد هؤلاء "العنصريين" فاقترحت تسمية الحزب الجديد "حزب العمال الألماني الوطني الاشتراكي" وهكذا كان، فابتعد عنا محترفي السياسة و"المناضلين" الذين يريدون القتال وسلاحهم القلم والورقة.
وقد قام هؤلاء بحملة ضدنا في الصحف المأجورة واليهودية منتقدين شعارنا القائل: "سنرد بعنف على من يحاول ارهابنا بعنف" وادعوا أننا جماعة تمجد القوة ولا تؤمن بالفكر والقيم الروحية.في بداية العام 1920 قررت أن أهيء إلى اجتماع كبير رغمًا عن الاعتراضات الكثيرة من قبل بعض المتنفذين في الحزب وكانت الصحف الحمراء قد بدأت تهتم بنا وتحمل علينا بعنف، ونحن بدورنا بدأنا نحضر اجتماعات الماركسيين للتشويش عليهم، وكان كل واحد منا يأخذ نصيبه من الضرب واللكم، وقد جعلنا هذا الاسلوب حديث المجتمعات، وتأكدنا أن "أصدقاءنا" الحمر سيحضرون أول اجتماع كبير لنا ليعاملونا بالمثل.
وبالرغم من تأكدي أن خصومنا سيتغلبون علينا في ميدان اللكم والضرب، لكني كنت على ثقة تامة بأن ثباتنا وقوة عزيمتنا ستقوي من معنويات حزبنا في الخارج، فالشعب تبهره القوة والأعمال البطولية. وقد عارض رئيس الحزب هذا الاسلوب فقدم استقالته من رئاسة الحزب فحل محله دركسلر الذي سلمني مهام الشئون الدعائية، فقررت يوم 24 شباط 1920 كيوم الاجتماع الحاسم. وأشرفت بنفسي على طبع وتوزيع النشرات الاعلانية، كما حرصت أن تتضمن المباديء الأساسية للحركة.
وما إن توزعت النشرات حتى صمم الماركسيون وحزب الشعب البافاري على محاربة الحزب الجديد، وكان الحزب هذا مهيمنًا على شئون الحكم في البلد زاعمًا أنه ينهج منهجًا قوميًا صحيحًا. وقد رأيناه يستخدم قوة البوليس لمصادرة نشراتنا من أيدي ألوف العمال
الذين ضللتهم الدعاية الماركسية وجعلتهم أعداء للوطن والقومية.وقد شذ من الحكام حلفاء الماركسيين إثنان فقط هما: أرنست بوهلر مدير البوليس، ومستشاره الدكتور فريك. هان الموظفان الكبيران اللذان كانا ألمانيين قبل أن يكونا موظفين.
في مساء الرابع والعشرين من شباط، دخل على قاعة الاجتماع ما لا يقل عن الألفي شخص. وكان نصفهم على الأقل من الشيوعيين والفضوليين الذين حضروا للتشويش، وكانت النتيجة عكس ما قرروه.
عندما بدأت خطابي شرع أعداء الحركة في التشويش فقاطعوني عدة مرات، ولكن تصدي بعض الزملاء من ذوي العضلات المفتولة فرض الهدوء نسبيًا، وبعد نصف ساعة طغى التصفيق على الهتافات العدائية. وعندما شرحت للحضور منهج الحزب طغت أصوات الاستحسان والموافقة على صراخات الاستنكار. وعندما تلوت على الجمهور المقترحات الخمسة والعشرين أقرها الأعضاء بالاجماع وفي جو حماسي رائع. وهكذا خطبت في مواطنين جمعهم إيمان جديد وإرادة جديدة. وعلمت وأنا أرى الناس تتدافع إلى الخارج بعد انتهاء الاجتماع أن حركتنا ستنتشر بسرعة خاطفة في أوساط الشعب الألماني.
إن جمرة قد اتقدت في تلك الأمسية من شباط، ومن لهيبها سيخرج السيف الذي يعيد إلى سيغفريد الجرماني حريته وإلى الأمة الألمانية الحياة.
لقد تراءى لي موكب البعث وهو يتحرك، وخيل إلي أن إله الإنتقام قد هب ليمحي عار التاسع من تشرين الثاني عام 1918.
وتابعت حركتنا سيرها.[/size]